فصل: مطلب في قوله تعالى {حتى إذا استيأس الرسل} وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من البشر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم رعاك اللّه أن الملاذ الدنيوية كلها خسيسة وأهمها الأكل والجماع والرياسة، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع وهو ترطب الطعام بالبزاق الذي هر مستقذر في نفسه، وأنه عند ما يصل إلى المعدة يتعفن، وقد يشاركه في لذته الحيوان، وأن يتلذذ بالروث تلذذ الإنسان بأكل الفستق مع الحلوى، وقال العقلاء من كان همه ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منها، ولذة الجماع عبارة عن دفع الألم الحاصل من الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته، فهو إخراج تلك الفضلات المتولدة في الطعام بمعونة جلدة وأعصاب مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس، مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك ولعبته بها، ولهذا قال الشافعي رحمه اللّه الجماع عبارة عن ساعة جنون، ويكفي الرجل أن يجنّ في السنة مرة واحدة، ويشاركه فيها الحيوان أيضا.
ولذة الرياسة عبارة عن دفع ألم الذل وطلب السمعة والشهرة وحب الانتقام، وهذه إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازعه فيها ويحسده عليها لكفى بها هما وغما، لأن صاحبها لا يزال خائفا وجلا مترقبا الحوادث بسببها.
فإذا كل ما في الدنيا خسيس، وفي الموت التخلص من الخسيس والرجوع إلى الحسن النفيس، فعلى العاقل أن يعمل صالحا في دنياه لتصلح له عقباه، ويحب لقاء اللّه، وللّه در المعرّي حيث يقول:
ضجعة الموت رقدة يستريح ** الجسم فيها والعيش مثل السهاد

تعب كلها الحياة فما أعجب ** الا من راغب في ازدياد

إن حزنا في ساعة الموت أضعا ** ف سرور في ساعة الميلاد

فاتق اللّه أيها الإنسان وارض بما قسم اللّه لك، واحسن يحسن اللّه إليك.
قال تعالى: {ذلِكَ} الذي ذكرناه لك يا أكرم الرسل من هذه القصة البديعة: {مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ} الذي: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} كأمثاله من الأخبار والقصص الأخرى الماضية والآتية،: {ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ} أي أولاد يعقوب عليهم السلام فيما فعلوا أخيهم ما فعلوا: {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} على إلقائه في الجبّ بعد إرادة قتله: {وَهُمْ يَمْكُرُونَ 102} به إذ احتالوا عليه وعلى أبيهم لأخذه معهم إلى المرعى كي يمكروا به كما صوروه بينهم، وإنما أخبرناك بتفصيل هذه الحادثة لتخبر بها قومك والسائلين عنها فيتحققوا أنها بإخبار اللّه تعالى إياك، لا كما يزعمون أنك تلقيتها من الغير سماعا أو تعليما، لأنك أمي وبينك وبينها قرون كثيرة، فلم يكن في زمنك من حضرها، وهذا آخر ما قصّ اللّه على نبيه من قصة يوسف ووفاته، وليعلم أنه لا يجوز أن يقال ما تقوله العامة (وليد ضاع ووجده أهله) لما فيه من التصغير بحق هذه القصة وعدم المبالاة بشأنها، مع لزوم تعظيمها وإجلالها، لأن اللّه تعالى سماها أحسن القصص، كما لا يجوز أن يقال أنت أو هذه أقصر من سورة الكوثر، أو هذا ما عنده شيء كالسماء والطارق، أو هذا فارغ كفؤاد أم موسى، إلى غير ذلك لما علمت من وجوب الأدب والاحترام لكلام اللّه، وإن أقصر آية منه لها معان عظيمة يكل أكبر عالم عن الإحاطة بها: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} وبالغت في الجهد على أن يؤمنوا بك فما هم: {بِمُؤْمِنِينَ 103} بك أنك مرسل من لدنا لأنهم مصرون على الكفر والعناد مهما بالغت بالحرص على إيمانهم،: {وَما تَسْئَلُهُمْ} أي كفرة قومك: {عَلَيْهِ} على تعليم هذا القرآن أو قبول ما فيه أو الإصغاء لأخباره وأحكامه: {مِنْ أَجْرٍ} يثفلهم إعطاؤه ليتهموك بأنك إنما تتلو عليهم لطمع نفسي مادّي مما يكن في صدورهم الخبيثة: {إِنْ هُوَ} ما هذا القرآن: {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 104} تذكرهم به مجانا، وتنصحهم وتعظهم لعلهم يرجعون عن عنادهم، فيتذكرون ما ينفعهم ويضرهم، وهذا تسلية لحضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إذ أنه بعد أن أخبرهم بهذه القصة التي وعدوه أنهم يؤمنوا به إذا هو أخبرهم بها كما هي عند أهل الكتاب الذين سألوهم عنها وقد قصها بأوضح من ذلك، فلم تزدهم إلا عتوا ونفورا، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ} بينة وعبرة ظاهرة دالة على الإله الواحد وصفاته مما هو موجود: {فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} لا يتفكر بها هؤلاء الكفرة ولا يعتبرون بمبدعها: {يَمُرُّونَ عَلَيْها} بأسفارهم، لأن آثار الأمم الماضية وأطلالهم فيها أي الأرض ظاهرة للعيان مشاهدة، وقد بلغهم بالتناقل عن كيفية إهلاك أهلها وهم لا يتعظون بها، أما آيات السماء فهي ملازمة لهم يشاهدونها أيضا كل ليلة ويرون اختلاف الليل والنهار، وسير الكواكب فيها، والانتظام العظيم الذي أبدعه الخالق الذي لا ينخرم قيد شعرة على ممر العصور وكرّها، ومع ذلك فلا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على صانعها، لأن اللّه تعالى طمس على قلوبهم لما فيها من الخبث وأعمى أبصارهم تبعا لبصائرهم، لذلك يقول تعالى قوله: {وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ 105} عن ذلك كله وإعراضهم هذا ليس بأعجب من إعراضهم عنك يا حبيبي، فاصبر عليهم، ولا تجزع من أفعالهم: {وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} بأنه هو الذي خلق هذين الفلكين العظمين وما فيها من أنس وجن ووحش وحوت وطير وديدان، وألهم كلا ما ينفعه ويضره، وقدر أرزاقهم لكل بما يناسبه بحكمة عظيمة، ومع هذا فإن كل من كلف بالإيمان به منهم لا يؤمنون: {إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ 106} به غيره من الأوثان، لأنهم يعلمون أن اللّه تعالى الخالق الرازق ويستغيثون به إذا دهمهم أمر، ومع ذلك يعبدون غيره.
قال ابن عباس وغيره إن أهل مكة يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إلا شريكا وهو لك، تملكه وما ملك! فنزلت هذه الآية، ومن هنا كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول لبيك لا شريك لك يقول له قط قط يكفيك ذلك ولا تزد إلا شريكا هو لك إلخ، قيل إن كفار العرب مطلقا، وقيل هم الذين قالوا إن الملائكة بنات اللّه، والكل جائز، فكما يجوز نزول آية لأسباب كثيرة يجوز أيضا انطباق أسباب كثيرة على سبب نزول واحد.
قال تعالى مهددا لهم: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ} عقوبة عظيمة مسجّاة محلّلة لا يعلمون ما فيها تشملهم وتغشاهم داهية: {مِنْ عَذابِ اللَّهِ} فتهلكهم جميعا: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} على حين غرة وغفلة تفاجئهم من غير سبق علامة أو أمارة فتأخذهم: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 107} بها فيموتون على كفرهم موتة رجل واحد، القائم قائما والقاعد قاعدا، وهكذا بحيث لا يستطيع أحد أن يتغير عن حالته التي هو عليها عند نزول العذاب: {قُلْ} يا أكرم الرسل: {هذِهِ} الحالة التي أنا عليها من الإيمان باللّه وحده والتصديق بما جاء من عند اللّه والإيمان بالبعث بعد الموت: {سَبِيلِي} طريقي ومنهجي: {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} عباده إليها: {عَلى بَصِيرَةٍ} معرفة واضحة تميز الحق عن الباطل أسير عليها: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وصدق بما جئت به من عند ربي، قال ابن مسعود رضي اللّه عنه من كان مستنّا فليستنّ بأصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة وأبرّها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم اللّه لصحبة نبيه ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم واسلكوا طريقهم فهو الطريق القويم والسبيل المستقيم، كيف وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن، أفضل الناس هداية وأحسنهم طريقة، وقل: {وَسُبْحانَ اللَّهِ} أنزهه وأبرئه عن الإشراك: {وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 108} البتة وهذا لما سبق في الدعوة إلى التوحيد واتباع الطريق التي هو عليها وأصحابه ونفي الإشراك، قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى} مثلك بالنسبة لأهل مكة ومن حولها.
وفي هذه الآية ردّ لقول من قال: {لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} الآية 23 من سورة المؤمنين الآتية، وإنما خص أهل القرى في هذه النعمة العظمى لأنهم أكمل عقلا وأفضل علما من أهل البوادي، لأنهم أهل جفاء وقسوة، وأهل المدن أهل لين وعطف غالبا، ولهذا قالوا إن التبدّي مكروه إلا في الفتن، وجاء في الحديث من بدا فقد جفا، ومن اتبع الصيد غفل، قال قنادة ما نعلم أن اللّه تعالى أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى، أي المدن والأمصار. ونقل عن الحسن أنه قال: لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن.
وجاء في الخبر من يرد اللّه به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة. هذا وإن يعقوب عليه السلام تنبأ قبل أن ينقل إلى البادية.
قال ابن عباس كان يعقوب تحول إلى بدا وسكنها، ومنها قدم يوسف وله بها مسجد تحت جبلها، قال جميل وقيل كثير:
وأنت التي حبّبت شعبا إلى ** بدا إليّ وأوطاني بلاد سواهما

قال ابن الأنباري: بدا اسم موضع معروف، يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان كما ذكر في البيت، وإنما سميت البادية بادية لأن ما فيها يبدو للناظر لعدم وجود ما يواريه، وهي عبارة عن بسيط من الأرض، وما قيل إن هذه الآية أي قوله تعالى: {إِلَّا رِجالًا} إلخ، نزلت في سجاع تميمة بنت المنذر التي يقول فيها الشاعر:
أمست نبيّتنا أنثى نطوف بها ** ولم تزل أنبياء اللّه ذكرانا

فلعنة اللّه والأقوام كلهم على ** سجاح ومن بالإفك أغرانا

أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ** أصداؤه ماء مزن أينما كانا

قول لا صحة له، لأن ادعاءها النبوة كان بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه وسلم، ولا قرينة تدل على أن هذا من الإخبار بالغيب، وقد أسلمت أخيرا وحسن إسلامها وقصتها مشهورة بالسير والتواريخ، قال في بدء الأمالي:
وما كانت نبيا قط أنثى ** ولا عبد وشخص ذو افتعال

قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} هؤلاء الكفرة: {فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الذين كذبوا رسلهم كيف أهلكناهم فيعتبرون بهم فيؤمنون باللّه ويتركون هذه الدار الفانية وما فيها لمن اغتر بها من الكفرة المصرين: {وَلَدارُ الْآخِرَةِ} الباقية الحسنة: {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك والمعاصي وعملوا الخير ووحّدوا ربهم: {أَفَلا تَعْقِلُونَ 109} ذلك يا أهل مكة فتتركون ما أنتم عليه وتتبعون ما يأمركم به نبيكم لتفلحوا وتفوزوا.

.مطلب في قوله تعالى {حتى إذا استيأس الرسل} وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من البشر:

قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} وقطعوا أملهم من إيمان قومهم والنصرة عليهم في الدنيا لتماديهم في الكفر مع توالي نعم اللّه عليهم: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف، أي ظنت أممهم كذبهم فيما أخبروهم به من نصر اللّه إياهم عليهم وإهلاكهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد، أي أن الرسل أيسوا من إيمانهم وأيقنوا أن أممهم كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم واستبطئوا النصر عليهم.
والقراءتان على البناء للمفعول تدبر هذا، واعلم أن من رجع الظن إلى الأنبياء وأراد به ترجيح أحد الجانبين لا ما يخطر بالبال ويهمس بالقلب في شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه الطبيعة البشرية، فقد أخطأ، لأنه لا يجوز على أحد من المسلمين، فكيف يجوز على أعرف الناس باللّه وأنه متعال عن خلف الميعاد؟ ويبطل هذا الزعم ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية، قالت بل كذبهم قومهم، فقلت واللّه لقد استيقنوا بذلك، فقلت لعلهما قد كذبوا أي بالتخفيف، فقالت معاذ اللّه لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت فما هذه الآية؟ قالت هم اتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن اتباعهم كذبوهم، جاءهم نصر اللّه عند ذلك.
وقيل أن هذا تكذيب لم يحصل من أتباعهم المؤمنين لأنه لو حصل لكان نوع كفر ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبطء النصر.
وفي رواية عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي مليكة قال قال ابن عباس رضي اللّه عنهما ذهب لها هنالك وتلا: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} الآية 214 من سورة البقرة، قال تلقيت عروة ابن الزبير وذكرت له ذلك، فقال قالت عائشة معاذ اللّه واللّه ما وعد اللّه رسوله في شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون معهم من قومهم من يكذبوهم، فكانت تقرأها، وظنوا أنهم قد كذبوا، بالتشديد مثفلة، أما ما نقله البعض عن ابن عباس من أنه قال وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم اللّه به من النصر، قال وكانوا بشرا وتلا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا} الآية المارة من البقرة، لا يصح إلا إذا أراد بالظن ما يخطر بالبال وكما ذكرنا آنفا، لأن الأنبياء منزهون عن الظن بربهم بخلف الوعد والوعيد، ويجب علينا تطهيرهم وبراءتهم من مثله تنبه، ولا يخفى أن الظن في القرآن بمعنى اليقين كثير، كفوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} إلى {يتقون} الآية 47 من البقرة.